Monday, March 11, 2024 أخر تحديث:
   
 
اطبع أرسل لصديقي
استخدم هذا النموذج لارسال هذا المقال لصديقك
Friend Email
Enter your message
حجم الخط
مشروعات تنموية >
 
 
 
   
    شاركنا على تويتر  
 
 
 
 
  التكلفة المائية

الدكتور ممدوح حمزة

المهندس الإستشارى والأستاذ الجامعى

لايوجد مورد أنفع للبشرية وأحفظ لوجودها مثل الماء العذب، وكل مورد دونه بدائل إلا الماء، فمنه نشأت الحياة وبه قامت الحضارة، وهو مورد لازم لذاته لايستعاض عنه بغيره ، كالبترول والفحم والغاز الطبيعى، ومنه أصل الحياة وبقائها كما يقول المولى عز وجل فى كتابه الكريم “وجعلنا من الماء كل شئ حى”.

والماء مورد شحيح، بطئ التجدد، لا تتجاوز نسبته 3% من مجمل المياه الموجودة فى الكرة الأرضية ظاهرها وباطنها، ونسبة الجليد منه 77.6%، والمياه الجوفية 21.8%، والكمية الباقية لا تتجاوز 1% عليها يحيا 6.7 مليار نسمة معيشة وزراعة وصناعة، وهذا النذر اليسير من المياه العذبة يتحصل عليه فى مناطق كثيرة فى العالم بكلفة وعناء وموازانات مالية ضخمة، ويتهدد نسبة 30% منه مخاطر التلوث، ويتهدده كذلك مخاطر الإستهلاك العشوائى الجائر، وتنامى التصحر والجفاف لمناطق كثيرة فى العالم .

هذه الندرة الشديدة فى الموارد المائية العذبة مقارنة بعدد سكان الأرض، مع تراجع حصة الفرد عالمياً وتنامى مناطق التصحر والجفاف فى العالم ستشعل بلا شك خلال عقود قليلة صراعات تفوق كل أشكال الصراع التى شهدتها البشرية من قبل، وسيغدو الماء السلعة الأغلى والأهم استراتيجياً فى أولويات السياسة الدولية حسبما تورده تقارير مراكز الابحاث المعنية بدراسة الصراعات فى العالم والتى تؤكد أن تفاقم الأزمة المائية العالمية سيؤثر على تواصل برامج التنمية فى قطاعات الزراعة والغذاء ومياه الشرب والصرف الصحى والبيئة والصناعة خلال الـ 50 سنة القادمة، وستوقفها فى الدول التى سيقل صافى نصيب الفرد فيها من المياه خلال العقد القادم عن متر مكعب يومياً.

وتتجلى أثار الأزمة بوضوح فى الوطن العربى، حيث تقل حصته عن 1% من كل الجريان السطحي للمياه العذبة فى العالم، وإجمالي الأمطار الساقطة على أراضيه لا تتجاوز 2% من مياه الأمطار.. وتؤكد دراسات “منظمة الأغذية والزراعة” أن هناك 19 دولة عربية واقعة تحت خط الفقر المائي، منها 14 دولة تعاني خطراً حقيقياً في نقص المياه حاضراً ومستقبلاً .

فبحلول عام 2015 ستقل حصة المواطن العربى عن 800 متر مكعب من المياه سنوياً، بما يعادل 10٪ من حصة الفرد عالمياً، كما سترتفع الاحتياجات المائية فى الدول العربية من 205 مليار متر مكعب حالياً إلى 400 مليار متر مكعب ‏بحلول عام 2025 نتيجة لتزايد عدد السكان إلى 500 مليون نسمة بنهاية نصف القرن الحالى.

وحسب تقارير الأمم المتحدة تقع مصر ضمن مجموعة الدول الـ 14 الأشد فقراً والتى تعانى نقصاً شديداً فى المياه، فنصيب الفرد من المياه العذبة في مصر حوالى 860 مترمكعب سنوياً، بما يوازى 2250 لتر يومياً، تستهلك الزراعة منه أكثر من 80%، ليتبقى له حوالى 450 لتراً فى اليوم، وهو أقل من خط الفقر المائي الذى تقدره الأمم المتحدة بـ 1000 متر مكعب سنوياً.

ويزيد من مخاطر الأزمة فى مصر بسبب عوامل “خارجية” أهمها انفراط عقد الأمن المائى المصرى فى منطقة حوض النيل ببناء سلسلة من السدود فى أثيوبيا وأوغندا وظهور عدة مشروعات مائية استثمارية فى دول الحوض على قوائم التنفيذ، وكذلك تفجر اعتراضات جادة من بعض دول الحوض على الاتفاقيات المائية التاريخية بين دول الحوض.

ولاشك أن الزيادة السكانية الكبيرة، وتوطن ثقافة استهلاكية غير رشيدة لا تعى حجم التكلفة المائية الباهظة للحياة، من الأسباب التى أوقفت مصر على عتبة ازمة مائية خطيرة، مما يستوجب معه أن يتكاتف الجميع من أجل إعادة الحسابات ومراجعة الثقافات الإستهلاكية المنفلته، والعمل على بلورة خطة إنقاذ قومى طويلة المدى تخرج بمصر من خناق هذه الأزمة التى تهدد مورد وجودها.

ويوضح الجدول المرفق مقدار أنصبة المواطنين من المياه فى دول العالم (..) ومنه يتبين أن الأزمة المائية قد أدركت مصر بالفعل، فنصيب الفرد فيها من المياه العذبة يقل بنسبة 60% عن خط الفقر المائى حسب المقياس العالمى، ولا وجه للمقارنة بين حصتة المواطن المصرى وحصة مواطنى دول العالم خاصة فى أمريكا الشمالية وأوربا وشرق أسيا.

وعلى مستوى قارة أفريقيا، يتفوق نصيب المواطن فيها من المياه العذبة على نصيب المواطن المصرى الذى لا بد له أن يعى بعض الحقائق عن التكلفة المائية الكبيرة لمطعمه ومشربه وملبسه ومن ثم يحاول الخروج على أنماطه الاستهلاكية المحكومة بموروثات وثقافات اجتماعية غير دقيقة فيما يخص القيمة الاقتصادية والحيوية لطعامه وشرابه ولباسه، فنحو 1625 مليار متر مكعب من المياه متضمنة فى البضائع والمنتجات الزراعية والصناعية التى تتدفق استيراداً وتصديراً عبر القارات بمايوازى 65% من كمية المياه العذبة فى العالم سنوياً، وبما يعنى ضرورة أن يعرف المواطن البدائل المثلى لما يستهلك من أطعمة وسلع ومنتجات على ضوء حسابات تكلفتها المائية .

فاللحوم والبروتينات الحيوانية على سبيل المثال يتطلب انتاجها قدراً كبيراً من المياه، وتعد من الأسباب المؤثرة فى تفاقم الأزمة المائية حسبما أكدت تقارير الأمم المتحدة الصادرة فى مارس الماضى، موصية باعتماد منظومات غذائية نباتية بديلة تلبى حاجة الجسم من البروتينات بأقل تكلفة مائية ممكنة، مؤكدة أن هذه البدائل النباتية تشيع فى طعام الفقراء كالفول والقمح والبطاطس والخضروات والفاكهة وهى تمتاز جميعاً بانخفاض تكلفتها المائية وسعراتها الحرارية.

فإنتاج كيلو من اللحوم الحمراء على سبيل المثال يستهلك أكثر من 7000 لتر من المياه، (..).. ولا وجه للمقارنة بينه وبين إنتاج كيلو من الفول من حيث التكلفة المائية والسعرات الحرارية المنخفضة، فإنتاج كمية من الفول تولد سعر حرارى تستهلك أقل من 0.25 لتر من المياه، بخلاف اللحوم الحمراء التى يتطلب انتاج سعر حرارى منها حوالى 6 لترات من المياه (..).

ويلى حبوب الفول فى السعرات الحرارية المنخفضة والتكلفة المائية الأقل القمح البطاطس والطماطم وفول الصويا والكثير من البقوليات، وهى أفضل كثيراً من لحوم الضأن والخنازير والأرز والدجاج والبيض والحليب التى تاتى مباشرة بعد اللحوم الحمراء فى السعرات الحرارية والتكلفة المائية الأعلى .

وبالنظر إلى حجم التكلفة المائية لوجباتنا الغذائية اليومية (..) يتبين أن النمط الغذائى الأمريكى( 100% لحوم حمراء مركزة) تبلغ تكلفته المائية أكثر من 5100 لتراً، وتنخفض التكلفة المائية للوجبات الغذائية تباعاً كلما تراجعت فيها نسبة اللحوم الحمراء، فطعام الإنسان النباتى اليومى لاتتجاوز تكلفته المائية 2300 لتراً، وهو الأقرب إلى النمط الغذائى الهندى.

وكذلك تختلف التكلفة المائية كذلك من مشروب لأخر، فإنتاج كيلوجرام من الشاى يستهلك حوالى 9200 لتراً من المياه، وهى تكلفة مائية مقبولة مقارنة بتكلفة إنتاج كيلو من البن يستهلك حوالى 21000 لتراً من المياه، وتقل كمية المياه فى الشاى الأخضر والينسون والعديد من الأعشاب البديلة .

ولابد إن يعى القارئ أن الماء لايقف إنفاقه بكثرة على مطعمه ومشربه، فكل الخامات التى نتعامل معها بشكل يومى داخلة فى نطاق التكلفة وتستلزم الحرص فى استهلاكها، فإنتاج كيلو من الورق يستهلك حوالى 125 لتر من المياه، وإنتاج ورقة مقاس A4 يستهلك حوالى 10 لتر من المياه، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الأدوات المكتبية والمنزلية والإنسجة والأخشاب والملبوسات، فإنتاج قميص من القطن يستهلك حوالى 2700 لتر من المياه، وإنتاج كيلو جرام من الجلود يستهلك حوالى 16000 لتراً من المياه، وإنتاج حفاضة أطفال تزن 75 جرام يستهلك حوالى 810 لتراً من المياه (..).

إن المعرفة بحجم التكلفة المائية اليومية لكل ما نستهلكه هى الأساس لبداية ثقافة الترشيد الإستهلاكى، وسيكون مناسباً أن تطبع التكلفة المائية للسلع على الأغلفة ليعرف المواطن حين يتناول غذائه ويرتدى ملبسه، حتى حين يتناول كيس من رقائق البطاطس لابد يعرف أن تكلفته المائية حوالى 60 لتراً من المياه وهو لا يقارن مطلقاً بالثمن الذى دفعه، فيتعلم بذلك أن توفير متطلباته عموما يستلزم احترام قيمة المياه والتعامل معها بوازع اقتصادى دينى .

إن اتباع سياسات الترشيد الزراعى يستوجب زراعة محاصيل اقل فى التكلفة المائية، فالأرز الذى يزرع بعشوائية فى مصر من المحاصيل الكثيفة الاستهلاك المائى، ولذا احجمت كثير من الدول عن تصديره، كما أن بعض الدول لاتزرعه وتفضل استيراده صيانة لقدراتها المائية مثل انجلترا، وتنتج مصر منه مايوازى 25 % من المحصول العالمى من الأرز، وحسب الإحصائيات الرسمية لوزارة الزراعة .

إن إنتاج كيلو جرام من الأرز يستهلك حوالى 1750 لترا من المياه، ولو سلمنا بهذا الرقم الذى هو أدنى من المعدل العالمى وبناءً على سعر تكلفة تحلية المتر المكعب من مياه البحر وهو 3.5 جنيهات حسب إحصائيات وزارة الرى فإن رى كجم أرز فى مصر يساوى تقريباً 7 جنيهات ، لتصل التكلفة الإجمالية إلى أكثر من 11 جنيهاً منها مصروفات التسميد والنقل والبشر والضرب والتعبئة والتخزين!! .

فعلى أى أساس اقتصادى صيغت المادة الأولى من القرار الوزارى رقم 258 لسنة 2008 التى تنص على أنه « يحظر تبديد مياه الرى بصرفها فى مصرف خاص أو عام أو فى أرض غير منزرعة أو غير مرخص بريها أو فى زراعة أرز بدون ترخيص، ويحصل مبلغ 30 قرشاً عن كل متر مكعب من المياه قام الزارع بسحبها زيادة على ما هو مقرر لرى أرضه أو تسبب فى تبديدها».. فهل بهذه المادة تدعم الحكومة سارقى المياه والزراع المخالفين ؟!.

إن الإستخدام الاقتصادى الرشيد للمياه يبدأ في المنزل والعمل وفى مؤسساتنا الدينية والتعليمية.. وإحداث تغييرات فى السلوكيات الفردية للتعامل مع المياه بحرص شديد يكون من من خلال مؤسسات الإعلام والتعليم والأسرة، وسوف تؤدي هذه السياسات إلى وفورات مائية كبيرة، فمن خلال جهود بسيطة يمكننا أن تقلل من كمية المياه العذبة التي تذهب إلى مواسير الصرف الصحى باتباع طرق التنظيف الجاف، وتقنين عملية النظافة البدنية.. فاستخدام فرشاة الاسنان بطريقة اقتصادية يمكن أن يوفر حوالي 5 لترات في كل مرة لغسيل الأسنان، وتذداد الوفرة عندما نقوم بتركيب مرشح للصنبور لتوفير أكثر من 3000 لتر سنوياً.

لقد اصبح لزاماً مراجعة استهلاكنا المنفلت من المياه، والعمل على تعميم ثقافة الندرة بين المواطنين بشان المياه، وتنمية الموارد المائية فى إطار استراتيجية قومية هو المخرج الوحيد لهذا المأزق الذى يهدد حياة المصريين بالفقر المدقع والجفاف والمجاعات، خاصة فى ظل وجود منابع المياه الرئيسية لمصر خارج أراضينا، بما يعنى ضرورة التوسع فى استغلال المياه الجوفية، وكذلك التوسع فى تحلية مياه البحر على مستوى تنموى اقتصادى أكبر، كل ذلك يسهم فى إنجاح خطط توسع المشروعات الزراعية والصناعية والغذائية اللازمة لتواصل التنمية وتحقيق الأمن المائى والغذائى فى مصر.

 
 
 
 
           
  الرئيسية | مشروع التغير | مراحل المواجهة | مشروعات تنموية | قالوا عن حمزة | صوت وصورة | المجلس الوطني المصري | المكتب الهندسي