من منا لم يتغيرعلى مر السنين والأحداث وأمام متطلبات الحياة ومتغيرات الضغوط.. لقد رأيت فى حياتى وبين أصدقائى من حولى من تحول من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن تحول من مؤمن إلى ملحد والعكس، ومن كاشفة لرأسها فمحجبة فمنقبة فكاشفة مرة أخرى.. رأيت الإشتراكى تحول إلى رأسمالى ثم ليبرالى والعكس، ولا انتقد هؤلاء .
القلة القليلة هم الذين ثبتوا على مبادئهم منذ زمالة الدراسة وإلى الآن، وماهى إلا صفة اتوج بها الدكتور أحمد يوسف أحمد زميل الصبا وصديق لمدة 47 سنة، وهذا لايعنى أنه لم يتطور ويتألق وتذداد حجته وقيمته، ولكنه رجل لم تغيره الرأسمالية أوالاستثمار ولم يغره المال أو المناصب .
وأسلوب الدكتور أحمد يوسف يمتاز ببلاغة الوصف ودقة النقد ورشاقة الأسلوب .. فإذا فقدت الثقة فى فى القومية العربية فاقرأ لأحمد يوسف وإذا فقدت الثقة فى المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية إقرأ لأحمد يوسف، وإذا فقدت الصدق فى الرومانسية السياسية فاقرأ لأحمد يوسف، وإذا أردت أن توضع خطة استراتيجية للتعامل مع جيراننا فى الشرق الأوسط وفى قارتنا بل وفى أمريكا فاقرأ لأحمد يوسف.
ولايوجد أبلغ مما كتبه فى تعريفه بكتاب “الكراهية العربية الأمريكية ” من التوصيف الحقيقى لعلاقات العرب بأمريكا حين كتب " ثبت أنه إن كانت ثمة تهمة يمكن أن تلصق بالعرب فى علاقتهم بالولايات المتحدة الأمريكية فلن تكون هذه التهمة سوى السذاجة السياسية المفرطة- ولانريد أن نستخدم لفظاً أقسى وأشد مرارة – فى مواجهة تطورارت السياسة الأمريكية التى لعبت دوراً أساسياً فى تقويض مصالح العرب فى تفاعلهم مع القوى الإقليمية والعالمية" .. هذا ما كتبه أحمد يوسف بأسلوب رشيق ما كان يمكن أن أكتبه مثلاً من كوننا نتسم بالعبط والهبل فى علاقتنا بأمريكا.
والرجل اليوم يتقلد الدور اللائق به فى قيادة أكثر المعاهد العلمية رقياً وتطوراً فى مجال التعليم فى الوطن العربى، وقد تخرج على يديه الكثير من الطلاب الذين يتبوأون المراكز المرموقة ، وقد أثرى الدكتور أحمد يوسف المكتبه العربية بالعديد من الأبحاث والمراجع العلمية والكتابات التنويرية التى أسهمت وتسهم فى تنمية وتبصير الوعى القومى بمشكلاتنا وقضايانا وقيمة حضارتنا وثقافتنا .
الحياة من منظور السياسة
الدكتور أحمد يوسف محلل سياسى بمعنى الكلمة يمتاز بالرؤية النقدية التحليلية الشاملة التى ترى ارتباطاً وثيقاً بين السياسة والفنون والأداب والدراما والرياضة والقضايا الأجتماعية، ويتضح ذلك فى العديد من كتاباته خاصة تلك التى تتناول الشان العام المصرى..ففى مقاله عن رائعة الدكتور مدكور ثابت "سحر مافات فى كنوز المرئيات" يتضح عمق النظرة واكتشاف مضامين تتجاوز عناصر النقد الفنى أوالتعليق السياسى لذلك العمل الفنى التسجيلى، فتستطلع فى وصفه وتحليلاته ما يكاد يصل بنا إلى معايشة اللحظة التاريخية والظرف السياسى المرتبط بها كذلك وانعكاستها المستقبلية، فكتاباته (معلقاً أو محللا أو واصفاً) تبصر فيها حركة وإيقاع الحياة والجماهير التى يراها ملهمة للظرف التاريخى ومشكلة للواقع السياسى برغم المؤثرات أو المؤامرات التى تحيط بها .
ولأن النظرة الشمولية ودراسة العلاقات التفاعلية بين السياسة وقضايا المجتمع من الخصائص التى امتازت بها كتابات الدكتور أحمد يوسف، فنرى فى مقالاته عن إنفلونزا الخنازير مثلاً مدخلاً لتحليل القصور الإدارى وأثار البيروقراطية وتناقض القرارات والمعالجات الرسمية خلال الكوارث والأزمات، وكذلك أثر ضغوط أصحاب المصالح فى تعطيل أو تسطيح القرار السياسى أو إفراغه من مضمونه .
وتستمتع كثيراً حين تقرأ للدكتور أحمد يوسف وهو يكتب عن الرياضة والمنتخب الوطن المصرى ويجعله حالة واقعية يسقط عليها مفهوم الديموقراطية فى المدارس الفلسفية القديمة من حيث طبيعة النقد التى توجه للمنتخب الوطنى ومدى الصواب والخطأ فى أحكام الجماهير والكثير من الكتاب خاصة أذا كانت الأحكام تنطلق من عاطفة أو انفعال لحظى وتفتقر إلى أدوات التقييم الموضوعية فى إصادر أحكامها، ولاينسى أيضاً أن ينبه إلى أن النتائج الإيجابية فى الرياضة وغيرها لابد من انطلاقها من إمكانيات وقدرات ذاتية .
ولأنه يرى السياسة من منظور الحياة أو العكس. فإن المشكلات السياسية وحلولها المختلفة يمكن مشاهدتها فى عمل فنى سواء كان فيلما أومسرحية.. فالغذو الذى استهدف عقول الأمة العربية ومعها الشعب المصرى – والذى تذكيه المسلسلات التى تشغل عقول الأمة بتوافه الأمور – إنما يكون التصدى له بأن يتحمل كل منا أمانته ويلزم واجبه فى حفظ تراثنا وثقافتنا ورموزنا.
ويضرب مثلاً بذلك من أحداث الفليم الأمريكى "451 فهرنهايت " حين ظهر أهل الكتاب book people وأخذ كل منهم على عاتقه أن يكون كتاباً حياً لحفظ التراث الإنسانى المعرفى فى المجالات المختلفة.
وهو يرى بذلك من وجهة نظر سياسية أن مقاومة الغذو الذى يستهدف عقولنا وتساعد فى توطينه مئات الفضائيات من خلال الإعلانات التجارية الاستهلاكية التافهة ومن خلال مواد فنية وإعلامية فارغة المضمون إنما يكون التصدى له من داخل ذواتنا وبما ورثنا من قيم وثقافة ومعرفة قدمها لنا عظماء هذه الأمة على مر تاريخها، وهو لا يعول على الدولة كثيراً فى هذا الدور لأنه يرى أن مؤسسات الحكم حين تكون غير سوية ومعتلة لن تقوم بدورها ووظائفها كما ينبغى، وإلى حين تعافيها يطلب من كل منا أن يكون مثل أهل الكتاب الكتاب فى فيلم "451 فهرنهايت " .
قضايا مصرية
تتجرد حرب أكتوبر كمعنى من أى لغط أو تشكيك لتجسد فى لحظة معينة إرادة شعب لايعرف الإنكسار، وقوات مسلحة رفضت الهزيمة ..يؤكد هذا المعنى الدكتور أحمد يوسف أحمد فى تعليقه على تصريحات اللورد " ديفيد أوين " وزير خارجية بريطانيا الأسبق يقول فيها بهزيمة المصريين فى حرب أكتوبر 1973 .
ويفند الدكتور أحمد يوسف هذه المزاعم والإفتراءات التى لن تنال من معجزة النصر بقوله " أن الدبابات الإسرائيلية لو كانت تستطيع التقدم إلى القاهرة لفعلت، لكنه لم يكن بمقدورها ببساطة أن تفعل وإلا دخلت فى كثافة سكانية تُضيع جنبا إلى جنب مع المقاومة العسكرية ما تبقى من هذه الدبابات.. ولقد نسى اللورد أوين فيما يبدو أن الدبابات الإسرائيلية قد حاولت بالفعل اقتحام مدينة السويس وأخفقت فى مواجهة المقاومة الشعبية الشرسة من أهل المدينة التى لا تتميز بكثافة سكانية عالية" .
ويورد الدكتور أحمد يوسف شهادة المؤرخ الإسرائيلى "أورى مليشتاين" التى تؤكد هزيمة إسرائيل بشكل قاطع فى هذه الحرب التى هزمت فيها إسرائيل وانتصرت مصر، أما الإنجاز الحقيقى الذى كان يتعين على إسرائيل أن تحققه لتدعى النصر فهو رد الجيشين الثانى والثالث من مواقعهما شرق القناة إلى حيث كانا قبل الحرب.
والدكتور أحمد يوسف فى منطقية وإقناع أنه ليس هناك من سبب كان ليدعو إسرائيل إلى سحب قواتها العسكرية ومستوطنيها من سيناء لو لم تكن تعلم أن السادات يفاوضها مستندا إلى نتائج حرب أكتوبر التى أثبتت فى وقت قصير أن مصر لم ولن تكون جثة هامدة .
وللقارئ أن يتذوق البلاغة والوطنية والمنطقية مجتمعة فى كلمات الدكتور احمد .." لم تكن مجرد حرب بالنسبة لنا يا سيد أوين، وإنما كانت وثبة نهوض تمنيناها جميعا بغض النظر عما يمكن أن تؤول إليه، ولعل أحدا يترجم لك يوما الكلمات التى خطها توفيق الحكيم فى الصفحة الأولى لجريدة الأهرام فى اليوم التالى لنشوب الحرب : "عبرنا الهزيمة بعبورنا إلى سيناء، ومهما تكن نتيجة المعارك فإن الأهم الوثبة. فيها المعنى: أن مصر هى دائما مصر. تحسبها الدنيا قد نامت، ولكن روحها لا تنام. وإذا هجعت قليلا فإن لها هبة، ولها زمجرة، ثم قيام». أيكون بمقدور السيد أوين أن يدرك مصدر اعتزازنا «بمعنى» حرب أكتوبر؟ ففيه الصحوة والنهوض، ومنه الحلم بوثبة جديدة نحو مستقبل يليق بهذا الوطن .
وفى المسالة المصرية والإنحياز لها وإعمال القلم فيما يؤرقها كانت مقالات الدكتور أحمد يوسف أحمد تتصدى لقضايا الفتنة الطائفية بين أبناء مصر مؤكداً على أن أثمن ما تمتلكه مصر من عوامل القوة هو نسيجها المجتمعي الفريد الذي جعلها دائما بمنأى عن الانكفاء لمواجهة مخاطر التفكك الداخلي، ويورد مخاوفه بألا نكون مدركين حقا لقيمة الوحدة الوطنية ومعناها في معادلة القوة المصرية في زمن عزت فيه عناصر هذه القوة .
آرائه السياسية
حين تنطلق أحكامنا من نظرية المؤامرة أو التحيز المطلق تغيب الرؤية الموضوعية، وهذه الأحكام المطلقة لايمكن أن تنطبق على القضايا السياسية التى تتسم بالنسبية، ويرى الدكتور أحمد يوسف أن العقلانية والقراءة المتأنية للخطاب الذى ألقاه باراك أوباما فى جامعة القاهرة قد تلاشت بين ذخم التهويل والتقليل الذى ألفناه فيما يتعلق بقضايانا القومية مما يعنى معه ضياع الفرض التى قد تكون سانحة فى التفاصيل التى تتجاوزها الأحكام المطلقة.
وبأسلوبه التحليلى البديع يرى الدكتور أحمد يوسف أن السياسة الأمريكية إنما كانت وستستمر شرق أوسطية تتحاشى مفهوم النظام العربى والأمة العربية لما لهما من مقومات التماسك وقوة الفعل حتى وإن بدت الصورة قاتمة فى كثير من جوانبها، وهذا بخلاف بخلاف الشرق أوسطية التى تنتفى فيها القومية والمقومات الثقافية الحضارية كاللغة والثقافة .
ويرى الدكتور احمد يوسف أن السياسات الأمريكية التى تسلك منهجاً سياساً واحدا على مدار رؤسائها ولا اختلاف بين جمهورى او ديموقراطى وإنما الخلاف يكمن فى حلاوة اللسان أو حدة النبرة وهى تسعى جاهدة لتغيير خارطة الصراعات فى الشرق الأوسط، وقد تحقق لها كثير من أهدافها حيث تحولت أنماط الصراع من اصطفاف عربى ضد إسرائيل إلى اصطفاف عربى ضد إيران، وفى ذلك وإضيف متغيير التخوف من تداعيات الثورة الإسلامية الإيرانية على نظم الحكم فى الخليج وذلك بجانب التخوف على متغيير الثروة النفطية .
وبالتزامن مع السياسة الأمريكية لتغيير خارطة الصراع فى الشرق الأوسط يرى الدكتور يوسف أن السياسة الإسرائيلية بزعامة نتانياهو تعمل جاهدة لتفريغ الصراع العربى الإسرائيلى من مضمونه وتحويله فى مرآة الرأى العام العالمى إلى صراع بين متطرفين ومعتدلين.
إن المقاومة هى رد فعل للإستعمار ولاشأن للمقاومة عن همجية العدو فى الرد على المقاومة .. من هذا المنطلق يعيب الدكتور احمد يوسف على خلط بعض الكتاب والسياسيين المصريين بين وقوفهم بحزم ضد إنتهاك بعض فصائل المقاومة الفلسطينية للحدود المصرية وبين تحميل هذه المقاومة مسئولية الدمار الذى ألحقه العدو بقطاع غزة .
إن ورقة االحوار الفلسطينى الفسطينى ونجاحها هى الورقة الوحيدة فى الوقت الراهن التى يمكن أن تحسن من شروط معادلة الصراع مع إسرائيل.. ويرى الدكتور أحمد يوسف أحمد أن معظم اوجه الخلاف بين الفصائل الفلسطينية إنما يرتبط بالصراع على السلطة بكل تفصيلاتها، سواء بالنسبة لطبيعة القيادة الفلسطينية أو آليات الإنتخابات وتشكيل الحكومة وتبعية الأجهزة الأمنية وتشكيلها ومسمياتها.
فالصراع الفلسطينى- الفلسطينى هو صراع ضد شعب يناضل من أجل حريته، فقد تحول الصراع ضد ضد العدو إلى صراع فصائل من أجل السلطة التى أنشأتها اتفاقية أوسلو، حيث تحول مقاتلو هذه الفصائل من كابوس يؤرق الإحتلال إلى شرطة تمارس مع شعبها وظائف الشرطة القمعية فى النظم غير الديموقراطية .
إن العودة للأصل مطلوبة فإما أن تكون مقاوماً للعدو أو أن تمارس سلطة وهمية فى ظل الإحتلال، أما أن يتصور البعض إمكانية الجمع بين "الحسنيين" فهو الوهم بعينه، خاصة وأن مشروع المقاومة قد تراجع بحكم الانقسام، وكذلك إفلاس مشروع التسوية فى ظل الظروف الراهنة .
الصداقة والجانب الشخصى
أما عن الصداقة والجانب الشخصى.. فقد التقيت بالدكتور أحمد يوسف أحمد فى سنوات الدراسة الأولى وبدأت العلاقة تتوثق فى فصل المتفوقين 3/1 بمدرسة التوفيقية الثانوية سنة 1965 . وجاء موعد مسابقة أوائل الطلبة وكانت المنافسة بين منطقتنا التعليمية وتمثلها مدرسة التوفيقة ومنطقة عين شمس وتمثلها مدرسة المتفوقين، فى ذلك الوقت كان هناك اهتمام بالعلم والتعليم وكان البرنامج التلفزيونى "أوائل الطلبة" فى ذلك الوقت ذو شهرة واسعة تفوق الشهرة التى تكتسبها حالياً برامج الفيديو كليب والتوك وبرامج حروب الديوك المسماة "التوك شو"والمسابقات والمسلسلات الهدامة وبرامج الكورة.
ما يهمنى فى هذا الموضوع أن فريق أوائل الطلبة من فصل المتفوقين من مدرسة التوفيقية كان يضم 4 طلاب على رأسهم أحمد يوسف أحمد الذى ذهب إلى المدرس المسئول الأستاذ سعد جرجس وقال له أنا اتنحى عن مكانى لممدوح حمزة إذا اردتم الحصول على الكأس، فبرر مدرس الفصل عدم اختيارى لكونى مشاغباً، ولكن أحمد يوسف تمسك برأيه، وقد ذهبنا إلى المسابقة وأحرزنا الكأس ومضت الأيام ولكن بقى السؤال : من منكم يعرف شخص مثل أحمد يوسف؟ شاب فى السابعة عشر من عمره يؤثر على نفسه لاعتقاده أن هناك شخص أنسب منه لتحقيق مصلحة الفريق .
ومن المواقف التى اذكرها يوم كنا فى رحلة الأقصر وأسوان التى كانت مقررة على طلاب الثانوية العامة ضمن الأنشطة الثقافية فى التعليم وقررنا أن نتوقف بسوهاج ليلتقى الدكتور أحمد يوسف باعمامه الذين لم يرهم منذ مولده، وحين لقاءنا بهم وجدتهم مثل أولئك الشخوص الذين رأيتهم فى رائعة شادى عبد السلام "المومياء" أناس بجلاليب وعباءات من الصوف ممشوقو القوام يقفون فى شموخ، وقد أشبعونى أحضاناً ومصافحات لاعتقادهم أنى أحمد يوسف ولكنى أوضحت لهم حقيقة الأمر.
ولا أنسى يوم أن ذهبت إليه منزعجاً بعد أن قرات فى مجلة النيوزويك الأمريكية بعد 11/9 مقالاً بعنوان " لماذا يكرهوننا" فما لبث أن شكل فريق عمل خلال 3 أيام واستمر العمل الشاق لمدة 3 شهور أصدرنا فى نهايتها كتاب "صناعة الكراهية فى العلاقات العربية الأمريكية" الذى يباع الآن طبعته السابعة .. ولن أنسى أيضاً موقف الدكتور أحمد يوسف أحمد ومكالماته المستمرة لى أثناء قضيتى فى لندن، فكانت وقفته معى وقناعته ببرائتى من الأسباب التى دعمتنى هذه الأيام .