Thursday, February 1, 2024 أخر تحديث:
   
 
اطبع أرسل لصديقي
استخدم هذا النموذج لارسال هذا المقال لصديقك
Friend Email
Enter your message
حجم الخط
2000 - يونية 2004 > مقالات >
 
 
 
   
    شاركنا على تويتر  
 
 
 
 
  أبناء مصر أولى بالحفاظ على آثارهم

أبناء مصر أولى بالحفاظ على آثارهم

د.ممدوح حمزة – المهندس الاستشاري

منذ عدة أسابيع تناولت الصحف ووسائل الإعلام العديد من المشكلات والأخطار التي تتهدد معبدي الكرنك والأقصر بسبب المياه الجوفية التى بدأت تؤثر على بعض نقوش الأعمدة بعد امتصاص أرضية المعابد ذات الحجارة الرملية للمياه بعد ارتفاعها عن المنسوب الطبيعي.

وقد عرضت الصحف وجهات النظر المختلفة حول أسباب هذه المشكلة التى عزاها البعض إلى المياه الجوفية المتراكمة تحت سطح التربة بسبب زراعات القصب فى هذه المنطقة، أو بسبب مياه الصرف الصحى للمناطق السكنية المتاخمة للمنطقة الأثرية التى باتت تهدد حرم المعابد بعدما استشرى غول الامتداد العمرانى فى هذه المنطقة.

وإذا كانت العديد من المشكلات المتعلقة بهذه المناطق الأثرية فى الأقصر وأسوان قد فرضت نفسها على الرأى العام وناقشتها المجالس المحلية وتناولتها الصحافة ووسائل الإعلام واختلفت حولها الجهات المختصة.. فإن أهم ما يلفت النظر ويثير الدهشة فى هذه القضية الهامة هو ما صرح به الدكتور جاب الله على جاب الله الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار ونشرته جريدة الأهرام بتاريخ 5 يونيو 2001 من انه قد تم التعاقد منذ عامين مع شركة سويدية لتقوم بالدراسات العلمية اللازمة لتحديد نوع وطبيعة ومصادر المياه الجوفية بمنطقة معابد الكرنك والأقصر.

كما أكد الدكتور “جاب الله” خلال هذه التصريحات أن ما دعاه إلى الإستعانة بالشركات السويدية انه لم يتلق الاستجابة الفورية من معهد المياه الجوفية المصرى والذى طلب مبلغاً كبيراً من المال ليقوم بعمل الدراسات اللازمة لمعالجة مشكلة المياه الجوفية تحت هذه المعابد، فاضطر المجلس الأعلى للآثار إلى اللجوء إلى الجانب السويدى لعمل الدراسات اللازمة والذى طلب مبلغاً أقل مما طلبه الجانب المصرى!

وبداية لا بد من التأكيد على أن الشركات السويدية كانت موجودة بالفعل قبل مخاطبة أى جهة محلية بطرق رسمية أو معلنة للتصدى للمشكلة، وقد رفض معهد بحوث المياه الجوفية المصرى القيام بدور الفواعلية وعمال التراحيل، حيث طلب منه القيام بعمل آبار تستغلها الشركات السويدية فى معالجة المياه الجوفية أسفل هذه المعابد، وإننى على يقين أن معهد بحوث المياه الجوفية العريق لا يمكن أن يتخلى أو يتراجع عن القيام بدوره الوطنى كاملاً ولكن بالشكل الذى لا يجعله يعمل بالسخرة تحت إشراف وريادة الشركات الأجنبية، كما اننى على يقين من أن الشركات السويسرية كانت ستطلب مبالغ أكبر مما طلبه معهد بحوث المياه إذا تولت بنفسها عمل هذه الآبار.

وما من شك فى أن قضية المحافظة على آثارنا والتصدى للمشكلات التى تتهددها غاية نبيلة وأمانة يفزع إليها كل مصرى ليكون له شرف المحافظة على هذه الآثار، تماماً مثلما كان له شرف الانتساب إلى هذه الحضارة الخالدة التى آل إليها إرثها المجيد وكان عليه قبل غيره مسئولية الحفاظ عليها لأنه البانى والمشيد لها وهو الأعرف بسرها وكنهها دون غيره من العالمين.

ومن هذا المنطلق فإنه يمكن التأكيد على أن الاستعانة بشركات أجنبية لترميم آثارنا أو لمعالجة ما يتهددها من مياه جوفية أو غيرها فيه ظلم كبير وتجاهل للخبرات الوطنية التى كان يمكنها بلا أدنى شك أن تنهض بمعالجة هذه المشكلة على خير وجه، لأن هناك العشرات من الخبراء الشرفاء والشركات والهيئات البحثية والتطبيقية فى مصر التى يمكنها أن تتصدى لحل هذه المشكلة بجدارة إذا أتيحت لها الفرصة بشكل عادل.

وإذا كنا قد اعتدنا الاستسهال والهرولة إلى الخارج عند أى مشكلة تواجهنا دون البحث الجاد عن الحلول الذاتية وإعطاء الفرصة للكفاءات الوطنية فإن الضرر يتضاعف هذه المرة، لأنه لا ينبغى التعامل مع آثارنا وتراثنا العظيم مثل تعاملنا مع إقامة محطات المياه أو الكهرباء التى نسلم عمليات إنشائها للأجانب.. بل إن قضية الآثار تستدعى أن يكون المصريون وحدهم هم المنوط بهم حفظها وصيانتها، لأنه ليس لأحد أن يزعم أن أبناء أى حضارة لا يعرفون أسرار حضارتهم وميراثهم من الأجداد، وما كان ينبغى الاستعانة بالشركات الأجنبية إلا بعد إثبات رسمي وقاطع يعلن صراحة فى الصحف الرسمية بأنه نظراً لعدم توفر الخبرات المحلية سيتم الاستعانة بشركات أجنبية لمعالجة مشكلات المياه الجوفية بهذه المعابد.

واننى أتحدى وأؤكد انه يوجد بمصر عشرات الهيئات والشركات وبيوت الخبرة الوطنية (المعلومة) التى تستطيع التصدى باقتدار لحل مشكلة المياه الجوفية التى تتهدد آثارنا بأسعار محلية زهيدة وبأداء علمى وعالمى وطرق حديثة.. ويخول للمجلس الأعلى للآثار أن يستعين بأى جهة أجنبية يختارها للحكم على أداء هذه الشركات والهيئات المحلية والخبرات التى يتوفر لدينا بيانات كاملة عن 6 جهات منها يمكنها التصدى لهذه المشكلة بجدارة.

إن الاختلاف مع إحدى الجهات البحثية حول المطالب المالية لعمل الدراسات اللازمة لحل هذه المشكلة كما صرح الدكتور “جاب الله” لا يبرر الهرولة إلى الخارج ولا يعنى القطع بانعدام الخبرات والكفاءات المحلية التى كان يمكن أن تقوم بهذه المهمة على أكمل وجه.. بل إن الأمانة والضمير والحرص على المصلحة الوطنية كان يستدعى الفحص والتمحيص وإعمال الجهد واستنفاد كل سبل البحث الجاد بالطرق المعلنة (رسمياً وقانونياً) عن الجهات والخبرات المحلية العديدة التى تقوم بهذه المهمة النبيلة على خير وجه.

وإذا كنت أؤكد على هذه المبادرة التى اعتبرها بمثابة التحدى للحكم على قدراتنا الوطنية فى التصدى للمشكلات القومية بوجه عام وقضية حفظ وصيانة الآثار بوجه خاص.. فإن الدافع إلى ذلك يخلو من أى تفاخر أو تربص لمنفعة، ويقوم على إيمان عميق بمقدرتنا على معالجة مثل هذه المشكلات وينجم فى ذات الوقت عن غيرة من الدول التى لا تمتلك معشار ما لدينا من آثار وتقوم بصيانة وترميم ومعالجة مشكلات آثارها بنفسها بالاعتماد على قدراتها المحلية دون اللجوء إلى الخارج.

وما من شك فى أن التصدى لحل هذه المشكلة كان يستوجب أن يتأكد المجلس الأعلى للآثار ويستوثق من انه بذل كل المساعى واستنفذ كل السبل فى البحث عن الجهات المحلية والخبرات الوطنية التى تتصدى للحفاظ على آثارنا وميراثنا المجيد.

ولكن أن يتم هذا الأمر بالأسلوب والطريقة التى طالعتنا بها الصحف ووسائل الإعلام فإن ذلك يدعو إلى الحزن والرثاء لما آل إليه حالنا فى التعامل مع أكثر القضايا أهمية وتمس الكرامة والاعتزاز بما خلفه لنا الأجداد من كنوز خالدة.. أنه إذا كانت مصر تمتلك نصيب الأسد من آثار العالم فهل يعنى ذلك أننا بقدر ضخامة ما نملك من آثار وشواهد حضارات بقدر ما تكون حاجتنا الدائمة إلى خبرات وكفاءات أجنبية تحافظ على رصيدنا من تراث معجز؟

وإذا كان الأمر كذلك.. فأين الخطط والمشروعات التى كان ينبغى وضعها منذ فترات طويلة لتنفيذ خطة استراتيجية طويلة المدى يتم على ضوئها وضع برنامج قومى تدريبى لصيانة هذه الآثار ومعالجة المشكلات التى تواجهها على أيدى المصريين تحت إشراف أساتذة الهندسة والجيولوجيا والآثار والفنون التطبيقية والتاريخ والمناخ والبيئة؟

إن قضية الآثار والمحافظة عليها ومكانة مصر الرائدة التى تسبق العالم أجمع فى ضخامة وعظمة إرثها الحضارى الخالد تستدعى اتخاذ الخطوات الجادة للشروع فى إنشاء معاهد وكليات ومراكز تدريب متخصصة تخرج باستمرار الكوادر والكفاءات التى يمكن لها أن تمتلك زمام المبادرة وتحافظ على تراثنا العظيم بدلاً من تسول الآخرين الذين تمكنوا من معرفة قيمة تراثنا وحضارتنا وسبقونا فى فك طلاسمها، ومن ثم أدركوا سبل التعامل معها والحفاظ عليها.

وليكن لنا القدوة فى العديد من دول العالم التى سبقتنا بسنوات عديدة فى إنشاء أقسام ومعاهد علمية متخصصة لمعالجة مشكلات الآثار وترميمها فى اليونان وإيطاليا وألمانيا وأمريكا والدول الاسكندنافية، واعتمدت العديد من الشركات والهيئات العالمية العاملة فى مجال صيانة وحفظ الآثار على هذه المعاهد والأقسام لتزويدها بالخبرات اللازمة التى تخرج من هذه الكليات والمعاهد.

إن الأمانة والشرف يستدعيان أن ينهض الوارث بأعباء ومتطلبات صيانة وحفظ ما آل إليه من ميراث، وإن لم يكن أهل لصون هذا الميراث فإنه لا يستحق أن يمنحه ولا يستحق شرف الانتماء إليه.. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد منح مصر آثاراً خالدة ومنزلة حضارية عظيمة، فكيف تستعين بغيرها لينهض بصيانة وحفظ ما نحن أعرف بسره وكنهه ونحن الذين بنينا وشيدنا هذه الصروح الحضارية الخالدة.

إن إسناد حل معظم المشكلات التى تواجه الآثار بمصر إلى الجهات الأجنبية سواء فى التوسع فى منح تراخيص التنقيب أو وضع رسوم وتصميمات وتنفيذ المتاحف أو عمليات الترميم ومعالجة المياه الجوفية يوجد فجوة عميقة بين إمكانياتنا وقدراتنا العلمية والتطبيقية وبين آثارنا وحضارتنا التى ينبغى أن نكون أكثر من غيرنا اهتماماً والتصاقاً بها وبمشكلاتها وطرق صونها والمحافظة عليها.

ولا شك أن ذلك يستدعى إعادة النظر فى هذه الأمور وإعادة التعامل معها من منطلقات استراتيجية تستهدف أولاً تمكين الشركات والجهات الوطنية من القيام بدورها كاملاً وتحمل مسئوليتها التاريخية فى صون وحفظ الآثار، وتستهدف ثانياً التكريس لخلق أجيال واعية ومدربة على أعلى المستويات تتولى مسئولياتها فى الداخل وتنجح فى تلبية احتياجات المتطلبات العالمية فى مجال صيانة ومعالجة مشكلات الآثار والتراث بالخارج.

إن قدرات الأمم على التقدم والارتقاء تقاس بمجموع ما تمتلكه من إمكانيات واستعدادات تتميز بها عن غيرها من الأمم والشعوب، ومن ثم فإن ما ينبغى التأكيد عليه أن مصر كان من المفترض أن تكون الدولة الأقدر على امتلاك الإمكانيات والاستعدادات المتفردة فى مجال صيانة وحفظ الآثار لأنها الدولة التى تمتلك أكبر من هذه الآثار والكنوز المعجزة.

ولكن أن يتم تجاهل هذه الإمكانيات وعدم التعامل معها بجدية يورث العديد من الآثار السلبية التى تنعكس بالسلب على القدرات والإمكانيات الوطنية التى كان من الممكن أن تصبح رصيداً زاخراً تلبى حاجتنا ذاتياً فى حفظ وصيانة الآثار وتتطلع إلى العمل بالخارج فى ظل تحديات الجات والعولمة.

وفى النهاية أتوجه مرة أخرى إلى المسئولين عن الآثار فى مصر بضرورة مراعاة الجدية وبذل الجهد للبحث عن البدائل والحلول الداخلية بدلاً من الهرولة إلى الخارج لأنه من الأولى بنا أن نقوم على صيانة وحفظ هذه الآثار التى نتغنى باستمرار بأننا أحفاد من بناها، ومن ثم فإننا ينبغى أن نكون أعلم من غيرنا بها.. لأن أهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل العربى القديم.

وانه من دواعى الأمانة والحرص على المصلحة العامة أن أؤكد مرة أخرى على وجود العديد من الجهات والكفاءات المحلية التى يمكنها دائماً الاضطلاع بهذه المهمة النبيلة باقتدار، واننى على استعداد تام إذا طلب منى رسمياً أن أقوم (دون أى مقابل) بوضع تصور لمشروع يقى معابدنا وآثارنا من اخطار المياه الجوفية، ويبقى فى ذات الوقت على معدلاتها الطبيعية ولا يضر باستخداماتها سواء فى مجال الرى أو غير ذلك من المجالات الأخرى.

وأدعو السيد الدكتور “جاب الله على جاب الله” الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار الذى نثق فى حرصه على تراثنا وكنوزنا الحضارية أن يبادر بالتعاون مع الجهات المختصة باتخاذ الخطوات اللازمة لما يهيئ الفرصة لوضع استراتيجية قومية للحفاظ على أثارنا من خلال الاعتماد على الكفاءات والخبرات المحلية الوفيرة.

نشرت بجريدة الأخبار بتاريخ 4/7/2001

 
 
 
 
           
  الرئيسية | مشروع التغير | مراحل المواجهة | مشروعات تنموية | قالوا عن حمزة | صوت وصورة | المجلس الوطني المصري | المكتب الهندسي