د. ممدوح حمزة
وجدتني مدفوعا لكتابة هذا المقال, فور أن قرأت خبرا منشورا في الصفحة الأولي من الأهرام 13/5 تحت عنوان: بعد غد آخر موعد لتسلم عطاءات قناة زايد وجاء فيه: تنتهي بعد غد المهلة المحددة لتسلم العطاءات, المقدمة من المكاتب الاستشارية العالمية الخاصة, لتنفيذ وحفر وتبطين الفرع الثالث من فروع قناة الشيخ زايد في توشكي, حيث يتم فض مظاريف العطاءات لاختيار المكتب الذي يتولي هذه الأعمال.
وابتداء, احب أن اقدم عدة نقاط, أولاها هو ما نكنه من تقدير عميق لصندوق أبو ظبي للتنمية باعتباره وجها مضيئا للسياسة العربية والتوجه القومي الذي تمتاز به دولة الإمارات وعلي رأسها الشيخ زايد بن سلطان تجاه أشقائه في مصر وغيرها من الدول العربية.
والثانية هي فتح باب العطاءات أمام المكاتب الاستشارية العالمية وحدها, لأن هذا يعني ـ بالضرورة ـ استبعاد كل من المكاتب الاستشارية العربية, والمكاتب الاستشارية المصرية, وهم يمثلون ثروة عقلية في وقت أصبحت فيه التنمية في العالم كله تعتمد علي العقول وليس علي السواعد, وهذا الاستبعاد هو ـ من المنظور المهني لنا كمهندسين استشاريين من عرب ومصريين ـ يعني شهادة من أهلنا وأبناء امتنا, بعدم الاعتراف بكفاءتنا وقدرتنا.
هذا في الوقت الذي تشهد المكاتب الاستشارية العالمية نفسها, لمثيلاتها العربية والمصرية, بكل الكفاءة والاقتدار, خاصة ونحن في مصر نملك تراثا هندسيا ربما يكون سابقا علي التاريخ ناهيك عن كونه أحد لوازم التاريخ دون انقطاع, وحديثا فلدينا في مصر خبرة من التعليم الهندسي انجب روادا في كل فروع الهندسة اثبتوا جدارة مثالية في الداخل والخارج علي امتداد المائتي عام الأخير من تاريخنا الحديث.
وإذا كنا في مصر والعالم العربي, نعلن أن البشر هم عماد التنمية, فان واقع الحال يؤكد أن النخبة الهندسية العربية تقف في طليعة القوي البشرية القادرة علي تحويل أحلامنا التنموية إلي واقع حي ومتحرك, فهم أساتذة العمران أولا واخرا.
والثالثة: إن الأمثلة الحية تنطق بين أيدينا, ومن أراد أن يتأكد, فما عليه أن يغبر قدميه, ويزور مواقع العمل في المشروعات العملاقة التي يجري فيها العمل علي قدم وساق, من توشكي, إلي شرق التفريعة, إلي العين السخنة, إلي مكتبة الإسكندرية, إلي مترو الأنفاق, إلي نفق الأزهر.
والرابعة: لست احب المفاخرة والمباهاة بخبرة المكاتب الاستشارية المصرية جريا مع قول شاعر النيل حافظ إبراهيم وبناة الأهرام كفوني الكلام عند التحدي وانما احب أن أشير إلي تجارب من التعاون الرائع بين المكاتب الاستشارية المصرية ومثيلاتها من المكاتب الاستشارية العربية, في إنجاز مشروعات عملاقة مثل إنشاء طريق اللاذقية في سوريا والذي كلف250 مليون دولار بتمويل عربي وكذلك إنشاء الرصيف البحري في ميناء العقبة بالأردن, ففي الأول كان الباب مفتوحا للمكاتب الاستشارية العربية فقط, وفي الثاني كان الباب مفتوحا أمام المكاتب الاستشارية العالمية والعربية.
والخامسة: انه من المنظور الاقتصادي, فان الاستشاري المصري أو العربي يمتاز ـ بخاصية الولاء والانتماء ـ بصورة تنعكس علي تخفيض النفقات وترشيد التكاليف, لأنه يعمل في بلده ولمصلحة أولاده وأهله ووطنه, والمثال علي ذلك ما حدث في توشكي, حيث يتطلب الأمر ضرورة رفع المياه بمعدل ثلاثة أمتار في الثانية بارتفاع54 مترا, إذ ظهرت مشكلة تتلخص في سؤال: ماذا لو تأرجح منسوب المياه في بحيرة ناصر بفعل الجفاف مثلا.. هل تهرب المياه بعيدا عن موقع محطة الرفع؟ وهذه المشكلة جعلت تسعة مقاولين عالميين مع كل منهم المكتب الاستشاري الخاص به يبحثون الأمر بعناية وقلق, ولم يأت الحل ـ بعد سبعة أشهر من الجهد ـ إلا علي أيد مصرية, حيث جاء الحل الحاسم اذا قررنا علي الفور إيجاد بحيرة صناعية مكان موقع المحطة, بحجم كبير ومتصلة ببحيرة ناصر بواسطة قناة مغمورة علي عمق60 مترا, وفي عام1981 وفرنا ـ كاستشاريين مصريين ـ علي خزينة الدولة12 مليون جنيه في مشروع خط كهرباء القنطرة ـ بور سعيد, وحدث شيء من ذلك في مشروع أنفاق مجاري وسط الإسكندرية, إذ نفذته العقول المصرية بثلث التكلفة التي كانت تطالب بها شركة أمريكية.
والسادسة: أن كل من يقرأ الخبر المنشورة في الأهرام5/13 عن الفرع الثالث من ترعة الشيخ زايد في توشكي, يكتشف أن المطلوب هو حفر وتبطين الفرع, وهذا ليس من الأعمال الهندسية الخارقة أو التي تحتاج خبرة عالمية, فهي ليست محطة نووية وليست محطة فضاء, وفي إمكان المكاتب الاستشارية الهندسية المصرية, أن تنجز المهمة وفقا لأعلي معايير الكفاءة الهندسية.
وحتما اقول نحن لسنا منحازين ضد الخبرات الاستشارية العالمية, وانما نحن منحازون لمصالح بلادنا, ولقيم الانتماء والولاء ولحقوق المواطن المصري في بلاده, ومرحبا بالخبرة العالمية اذا كان العمل المطلوب لا يجد في مصر والعالم العربي من يتولاه خاصة وان التشريع المصري يلزم الدولة وهيئاتها بألا تعهد بالاعمال الهندسية, إلا إلي المهندسين المقيدين في جدول النقابة, وكذلك المكاتب الهندسية الاستشارية المقيدة بها, وإلا تعمل المكاتب الاستشارية الأجنبية إلا من خلال المكاتب الاستشارية المصرية, أرجو أن تكون الرسالة قد وصلت إلي كل من يهمه الأمر, وصدقوني اذا قلت لكم أن العكس هو الذي يحدث, إذ نضطر نحن المصريين للعمل من الباطن تحت مظلة الأجانب المحظوظين في بلادنا.
نشرت بجريدة الأهرام بتاريخ 30/5/1999